السرّ المنسيّ
سرّ الاعتراف هو الباب الأوّل الذي نفذ منه إلى كنيسته.
لقد اعتاد أن يرى أب الاعتراف (مطران المدينة لاحقاً) واقفاً في ركن الكاتدرائيّة لساعات يستمع إلى اعترافات المؤمنين ويزوّدهم بالإرشادات الروحيّة مساء كلّ سبت، فيما هم ينتظرون دورهم.
أتى إلى الاعتراف من باب التغيّرات الجسديّة التي بدأ يشعر بها في بدء مراهقته ومن احتكاكه بالروحانيّات الغربيّة بغية معرفة رأي كنيسته بها. لم يكن عنده مشكلة شائكة في الكلام عن ذاته. استمع الأب المعرِّف إليه وزوّده بما تيسّر. لم يتردّد إلى الاعتراف كثيراً، وإنّما بشكل متقطّع، لكنّه لاحظ الفوارق في ما يخصّ الاعتراف بين الكنيستين الشرقيّة والغربيّة. ما من كرسيّ اعتراف في الشرقيّة، بل جلسة طبيعيّة مع الأب المعرِّف. ما من بعد قانونيّ لمداواة الخطيئة بل استشفائيّ. سيشدّد على البعد الاستشفائي كثيراً في ما بعد عندما يصير بدوره أباً معرِّفاً.
عندما التزم كنيسته كانت علاقته قد تمتّنت مع هذا الأب الجليل، فصار هو أب اعترافه، أو ما دُرج على تسميته في الفترة الأخيرة أبيه الروحيّ. رافقه هذا الأب جيّداً وتابع نموّ دعوته بكلّ رحابة ودونما أيّ ضغط أو إكراه. لا بل اعتاد أن يوجّهه ورفقاءه إلى الالتقاء بالآباء الذين يزورون مدينته من حين إلى آخر، كرئيس دير الحرف، للاستفادة من خبراتهم. ثمّن هذا التعاون المحبّ بين الآباء في سبيل نموّه الروحيّ.
للأسف، لن يرى هذا الصفاء في العلاقات عندما سيتقدّم في السنّ، وسيلمس خفّةً في الممارسة العمليّة لما سُمّي بالأبوّة الروحيّة في كنيسته.
بعدما صار هذا الأب مطران الأبرشيّة، أوكل رعايته الروحيّة والمجموعة التكريسيّة التي ينتمي إليها إلى أحد الآباء الناشئين الذين يثق بهم. وهكذا استمرّت العلاقة.
لم يكن كتاب القدّيس يوحنّا السلّميّ متوفراً بالعربيّة بعد وكذلك الكتابات الآبائيّة التي تُعنى بالحياة الداخليّة. اندهش عندما قرأ في السلّميّ لاحقاً عن اختبار الابن للأب الروحيّ وامتحانه واختبار آباء معرِّفين آخرين قبل أن يتّخذه أباً بشكل نهائيّ. فهذا ما صار معه بمساعدة أبيه المعرِّف دونما أن يتقصّده.
التزم في نضجه أباً روحيّاً بعينه، لكن هذا لم يمنعه من صلات صادقة وحارّة مع آباء آخرين. لم يكن يرى خيانة لأبيه في الانفتاح على غيره بخصوص بعض القضايا الشخصيّة الهامّة، وأبوه بدوره ما نهاه مرّة عن ذلك، إذ كان يُعلمه بكلّ شيء.
لقد ذاق معنى بركة الأب فعليّاً. كانت التجربة حين تشتدّ تذهب سريعاً بمجرّد طلب بركته. هذا جعله ينفتح على سرّ الأبوّة الروحيّة ويتابع تعليم آباء الكنيسة بخصوصه. ثمّة سرّ في حياتنا الروحيّة له علاقة بعمل الروح القدس المباشر. لا يمكن لك أن تحدّده أو تعرّفه قانونيّاً. لك أن تلحظه يعمل هنا وثمّة، في هذا وذاك، وأن تجمع خبراته لتشكّل تعليماً متكاملاً، لكنّه أبعد ما يكون عن التعليم القانونيّ أو اللاهوت النظاميّ.
في أحد وجوهها الرئيسة، الحياة في المسيح قائمة على الاختبار الشخصيّ والتسليم الكنسيّ (التقليد الشريف) الذي راكمه عمل الروح القدس في تاريخ الكنيسة. وهنا يجب التمييز بين الجوهريّ والثانويّ في هذا التسليم. عدا ذلك قانونيّة قاتلة لعمل الروح القدس ومعيقة له من الفعل في نفوس الناس.
عندما أوكله مطرانه بممارسة سرّ الاعتراف، وهي خدمة خاصّة يُزَوَّد بها الكاهن من بعد رسامته، بدأ بسماع اعترافات المؤمنين. لم يكن الأمر غريباً عليه فقد اعتاد الاعتراف وخبره منذ زمن، وكذلك إرشاد الشبيبة ومرافقتها، وممارسة التعليم عبر الأحاديث والأسئلة. غير أنّه انتبه إلى ضحالةٍ ما في عمق الحياة الروحيّة، واقتصار أكثر الاعترافات على أمور محدّدة بعينها كصعوبة المثابرة على الصلاة اليوميّة والمشاكل الغراميّة للشبيبة وأزماتهم مع أهلهم. حسّ التوبة يكاد لا يظهر، والبعد الأفقي للحياة في المسيح، أعني حياة المحبّة وتطهير الذات شبه غائبين. البعد العمودي هو السائد بممارسات تَقَويّة، مع أنّها أساسيّة، لكن يعوزها الاكتمال بأعمال المحبّة: فالصليب لا يكتمل إلّا بعارضتيه. أنت تحبّ الله في القريب، وإلّا كانت محبّتك كاذبة أو وهماً. وحده القريب محكّك لمعرفة ذاتك في واقعها. لا يكشف لك عيوبك ونقائصك إلا الآخر، الذي يسمّيه الإنجيل "القريب". مع ذلك لاحظ أنّ الإقبال شديد على الاعتراف، ما يعني أنّ الناس بحاجة إلى مُرافِق.
حاول جهده تزويد المعترفين ببرنامج يوميّ يتناسب وقدرتهم. ما كان مهتمّاً بكميّة المطلوب منهم قدر اهتمامه بمواظبتهم على القيام به. وحاول عبر مدارس الأحد أن يسدّ الثغرات الاجتماعيّة والنفسيّة التي تعاني منها الشبيبة. فتح الكنيسة مساء كلّ يوم لصلاة النوم الصغرى، وإقامة مسابح تضرعيّة لمن يقع في محنة ويطلب ذكره. غذّت هذه الحركة بُعدَ حياة الصلاة في الرعيّة، وسرعان ما ازدهرت وصار الناس يجتمعون يوميّاً حتّى في غيابه. كانت خبرة معزّية للجميع.
علّمته ممارسة سرّ الاعتراف الكثير وهذّبته شخصيّاً، وربّاه الكثير من المعترفين الصادقين، وهذا بدوره أغناه وأغنى المعترفين عنده على الصعيد الروحيّ والشخصيّ. تعلّم الكثير من توبة المؤمنين، وتأكّد من أنّ القداسة ليست محصورة في زمرة أو فئة بعينها. كان يستغرب أحياناً ما يخرج منه من نصائح لم يكن قد فكّر بها سابقاً. حقّاً، عمل الروح القدس ملموس في هذا السرّ المهمل.
لم يرَ نفسه مستنيراً ليصير أباً روحيّاً، أو شيخاً بحسب التقليد الشريف. الله من يختار الأب الروحيّ بعدما يعبر مرحلة التطهير ويختبر الاستنارة. أمّا هو فما يزال في مرحلة جهاد التطهّر من أهوائه. لذا ركّز على الاعتراف. يقول القدّيس سمعان اللاهوتي الجديد:" من لم يولد ليس أهلاً لأن يلد أولاده الروحيّين"، و "يفترض في مَن يعطي الروح القدس أن يكون قد اكتسبه أوّلاً".
ساهم في دفعه إلى ذلك ما بدأ يراه من ابتذال في التعاطي مع مفهوم الأب الروحيّ. نصح الجميع بأن يمارسوا الاعتراف إلى أن ينضجوا ويلتزموا طاعة أب روحيّ ناضج. لا تأتي الأبوّة في أوّل الطريق، وإنّما بعد منتصفه، فهي تحتاج إلى نضج وصدق. كان ضنيناً عليها لأنّه ذاقها واختبرها في عمقها.
إلى ذلك، لم يقبل يوماً أن يستخدم دوره الأبويّ هذا ليفرض شيئاً على المعترِفين، أو ليوجهّهم إلى ما يراه حتّى لخير الكنيسة. التزم أن يكون دوره محصوراً في خلاصهم ونموّهم في المسيح. هذا سيعطيه ثقة أكبر وراحة ضمير في المستقبل. رفض أن يصير سرّ الأبوّة الروحيّة زمراً تتباهى بأبيها وتعادي بعضها وتنتظم مخطّطات ومشاريع. هذا ليس خلاصاً للنفوس. لكن ما صدمه هو رؤيته انقياداً في الشبيبة إلى من يسوسها كما الفَرَس، أكثر ممّن يكبّرها لتحمل مسؤوليّتها بنفسها أمام الله والمجتمع.
تأكّد من أنّ سبباً ما، يحتاج إلى تحليل دقيق، بدا له خطِراً يلعب دوره في إضعاف شبيبة المجتمع الشرقيّ. أقلقه الأمر لكنّه ظلّ على موقفه وأمانته لتعليم الكنيسة اللاهوتيّ الأصيل، كما فهمه واختبره، وزاده الزمن ثقةً بأصالة موقفه.