أبرشية بصرى حوران
و جبل العرب و الجولان
للروم الأرثوذكس
كلمة الأسقف

خبرة رعائيّة جديدة
رغب بعد حصوله على شهادة اللاهوت بمتابعة دروس في الرعاية في معهد القدّيس فلاديمير في نيويورك. رفض مطرانه الدراسة في أميركا

، وقال له إنّه لا يمانع في أمر تخصّصه، ولكن حصراً في جامعة سالونيك (اليونان)، وبعد أن يعود أحد طالبَي الأبرشيّة اللذين يتابعان رسالة الدكتوراه هناك.
ما كان راغباً في التخصّص. يريد أن يكون راعياً. يعرف عن كلّ شيء، وغير مأسور في حقل بعينه. إلى ذلك رغب في ذلك المعهد لسببين: لأنّه يدرّس اللاهوت الرعائيّ، ولأنّ الاطّلاع على خبرة الكنيسة هناك مفيد بسبب هيمنة النموذج الأميركي على العالم. لم تتحقّق تلك الأمنية. فانصرف إلى خدمة رعيّتـه، مقتنعاً ببساطة، بأنّ الله لم يبارك مشروع الدراسة.
بعد خمس سنوات من العمل الرعائي، أراد أن يأخذ فرصة يجدّد فيها فكره الرعائيّ ويقوّي لغته الإنكليزيّة التي سبق ودرسها في معهد ضعيف إبّان الحرب اللبنانيّة. رحّب صديقه الذي صار أسقفاً باستضافته. فطار إلى أميركا، وأخذ بركة ميتروبوليتها يوم وصوله. قضى بضعة أيّام بين بعض من أبنائه وأصدقائه الذين استقرّوا فيها مؤخراً ومن ثمّ انطلق إلى وسطها، حيث يقيم صديقه المستضيف.
لفته أنّ شعب الأبرشيّة يقوم بكافّة احتياجاتها. وعلى العكس من شعب الكنيسة الأمّ لا يطالب الكنيسة بشيء سوى الرعاية الروحيّة. سيرى شيئاً من هذا بعد خمس وعشرين سنة عندما يزور الكنيسة الصربيّة. كان الناس والإكليريكيّون في صربيا يستغربون سؤاله عندما يستعلم عن دور الكنيسة الاجتماعيّ. عندهم وظيفة الكنيسة قائمة على تغذيتهم روحيّاً، على الرغم من فقرهم. ثمّة علاقة عضويّة حيّة، في أبرشيّتنا الأنطاكيّة في أميركا الشماليّة، تعبّر عن نفسها بنظام ماليّ محدّد، قائم على الاشتراكات والتبرّع. سوف يدرك أكثر فأكثر مع تقدّم العمر مدى تأثير التاريخ والثقافة على عقليّة البشر وأخلاقهم وانعكاسه على مواقفهم ومفاهيمهم.
تسنّى له أن يزور رعايا مختلفة في ثلاث عشرة ولاية بالإضافة إلى عدّة رعايا في كندا، وأن يطّلع عمليّاً على تنظيم الأبرشيّة والبعد الرعائي فيها. تعرّف إلى رعايا مهاجرة قديمة نسيت العربيّة، وأخرى مهاجرة جديدة تتأرجح بين نظام الكنيسة الأمّ الذي أتت منه والنظام الكنسي الموسوم بالطابع الأميركيّ. لكن الخبرة الأغنى كانت مع رعايا المنضمّين.
عرفت الأبرشية في ثمانينيّات القرن العشرين، التحاقاً جماعيّاً إليها من أوساط إنجيليّة مختلفة. ومذّاك لم تتوقّف حركة اكتشاف الأرثوذكسيّة. إبّان زيارته كان معدّل الدخول في الأرثوذكسيّة في الأبرشيّة الأنطاكيّة رعيّة أو اثنتين كلّ شهر.
صدمه عدد "الكنائس: الطوائف الإنجيليّة" في ذلك البلد: أكثر من ثلاثين ألف! يبلغ طول الطريق العامّ الذي يصل المطرانيّة بالكاتدرائيّة حيث يقيم، حوالى الألف متر، تتوزّع على طرفيه ثلاث عشرة كنيسة، واحدة أرثوذكسيّة وأخرى كاثوليكيّة والباقية كلّها إنجيليّة. من بينها ثلاث معمدانيّة؛ إذا ترك أحد مؤمنيها كنيسته إلى الكنيسة الثانية لا يقبلونه من دون معموديّة جديدة!! عرف أنّ القانون الأميركي يجيز لعشرين شخصاً اتفقوا على رأي ما أن يؤسّسوا كنيسة! كما أدرك أنّ مصطلح كنيسة church لم يعد يعني كنيسة مسيحيّة في الاستعمال الأميركيّ الحاليّ بقدر ما يعني معبداً.
تفريخ الكنائس المتسارع، والبعد عن التراث الكنسي الأصيل، وتراكم تقليد إنجيليّ على مدى خمسة قرون جعل الكثيرين من الإنجيليّين يتساءلون: أيّها كنيسة المسيح الأصليّة؟ وجد بعضهم الجواب عندما اكتشف الكنيسة الأرثوذكسيّة.
احتكاكه بالرعايا الأميركية عرّفه على الواقع الأميركي الأصيل، فجلّهم تأمركوا منذ زمن ولا يمتّون بشيء من القرابة إلى مجتمعات الشرق الأوسط التي أتى هو منها.
لمس في الأبرشيّة بعامّة التزام المؤمنين بتعليم الكنيسة، وفهماً واقعيّاً للطوائف المسيحيّة، وغياباً للعواطف التي تجعل أبناء بلده يتجاوزن أموراً إيمانيّة أساسيّة في سبيل علاقة شخصيّة مع المسيحيّين المنتمين إلى كنيسة أخرى.
في أميركا الأرثوذكس قلائل. بعضهم يسوق سيارته ساعتين ونصف حتّى يصل إلى الكنيسة لحضور القدّاس الإلهيّ صباح الأحد. وعلى الرغم من ذلك، كانت الكاتدرائيّة التي يصلّي فيها تضع نصّاً ثابتاً بالخط العريض في صفحة نشرتها الأسبوعيّة الأولى يتضمّن توجيهين. الأوّل يطلب من المؤمنين الواصلين بعد ترتيل "قدّوس الله" أن يتابعوا القدّاس من النارثكس (مدخل الكنيسة) ولا يتقدّموا من المناولة المقدّسة. والثاني إن كان الحاضرون لا ينتمون إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة فيمكنهم المشاركة في أخذ قربانة البركة بينما لا يستطيعون المشاركة في المناولة الإلهيّة. لم يعترض أحد مرّة. وكان يرى في كلّ أحد عائلة أو أكثر تتابع القدّاس من المدخل. عرف بعد حين أنّ السبب يعود إلى أنّ أبناء هذه الرعيّة من المهاجرين الذين أتوا في بدايات القرن العشرين وتأمركوا بالكليّة بالإضافة إلى الكثير من المنضمّين من أصول أميركيّة مختلفة. قال له الأسقف لو كانوا من أصول مهاجرة حديثاً لأتعبونا كثيراً بعدم تمييزهم بين الإيمان والعلاقات الشخصيّة.
قرأ الكثير من الكتب اللاهوتيّة التي توفّرت له في تلك الفترة، وعرف أنّ دور نشر كثيرة باتت توفّر الكتاب الأرثوذكسيّ بالإنكليزيّة. باتت الأرثوذكسيّة "ديناً" رسميّاً في تلك الأصقاع.
غير أنّ همّه كان الرعاية. الشبيبة والأطفال والمرأة والعائلة. هذه تنوّعت أساليبها بعامّة بحسب مواصفات كاهن الرعيّة ومجلسها. لكن الخطّ الناظم لجميع الرعايا يأتي من المطرانيّة الأمّ، ويقضي بوجود مدارس الأحد للأطفال وحركتي "سويو" للشبيبة و"المرأة الأنطاكيّة" للسيّدات. ثمّة قرية تدعى بالأنطاكيّة تجمع الجميع في مخيّمات صيفيّة ومؤتمرات على مدى العام.
أمّا تمويل الكنيسة فيأتي بالكليّة من المؤمنين اشتراكاً سنويّاً وتقدمات وافرة متنوّعة. من لا يدفع اشتراكه السنويّ يعتبر ضيفاً مرَحَّباً به، لكن الكاهن ليس مسؤولاً عن رعايته. وثمّة جمعيّات متعدّدة على نطاق مساحة الأبرشيّة تتبع المطرانيّة الأمّ ولها دورها في تغذيتها الماديّة. إلى ذلك تدفع كلّ رعيّة للمطرانيّة مبلغاً صغيراً سنويّاً عن كلّ عضو فيها. أخبره الميتروبوليت أنّ معظم كنائس الذين اكتشفوا الأرثوذكسية والتحقوا بالأبرشيّة الأنطاكيّة يدفع العشور، فلذلك تكون نسبة ما تقدّمه رعيّة صغيرة العدد منهم أعلى بكثير ممّا تقدّمه رعيّة كبيرة من أصول عربيّة!!
ستلعب هذه الخبرة دوراً هامّاً في صقل خبرته الرعائيّة ونظرته التحليليّة للأحداث التي تجري في كنيسته وغيرها، وسيلمس بخاصّة أهميّة هذا الصقل الذي زوّدته به بعدما يصير مطران أبرشيّة.
عاد بعد ستة شهور مكتفياً بما حصّله من خبرات ورافضاً طلب تجديد إقامته. في تلك الفترة وخلال زياراته طلبت منه رعايا كثيرة البقاء في أميركا، لكنّها على سحرها لم تستهوه. قلبه في الوطن الأمّ وهناك وجد دوره.
سألته شبيبته عندما عاد: كيف وجدت أميركا؟ فكان جوابه: ما ينقصنا متوفّر هناك، وما ينقصهم متوفّر هنا. ما من مجتمع كامل على الأرض. الكمال في الملكوت السماويّ.
ما صدّق بعض الذين راهنوا على عدم رجوعه أنّه سيعود. فربح الرهان الذين عرفوه في أعماق نفسه، ودفع العديد منهم خسارة رهانهم هذا.