الكلمة
عاشر الكلمة منذ صغره، فأحبّها مشافهة ونصّاً، ما دفعه إلى إيلائها عناية واهتماماً كبيرين.
عرف منذ نشأته حبّاً للتأليف والطباعة. اعتاد أن يهتمّ بتصوير بعض المقالات والأقوال الروحيّة المفيدة التي يستعذبها لتوفيرها للإخوة في زمن كان الشحّ فيه هو السائد. لطالما نسخ بيديه دفاتر ممّا يقرأ ويستعذب ويصله من ترجمات أعمال روحيّة من مرشده الذي يتابع دراسته اللاهوتيّة في اليونان ويزور الجبل المقدّس من حين إلى آخر.
لا ينسى مقالة وصلته وأُعجب بها جدّاً، ورآها عصريّة فإذا به يكتشف أنّها تعود للقدّيس دورثيوس الغزّاوي من القرن السادس! علّمته هذه المقتطفات المترجمة آنذاك قيمة آباء الكنيسة ودورهم، وفعل الروح القدس في نفوس المستنيرين.
بدأ مشروعه الأول بعدما رُسم كاهناً. كرّاسات شهريّة تتناول مواضيع محدّدة. كتب للعديد من الأصدقاء يطلب مساعدة وبدل اشتراك سنويّ. وجد تجاوباً. فبدأ بكرّاس من ست عشرة صفحة. وانطلق المشروع واستمرّ حوالى عشر سنوات، وتجاوز عدد الكراسات المئة.
حلمه كان أن تصدر مجلّة خاصّة بالأطفال وأخرى بالشبيبة. فاتحه بعض أبنائه بمجلّة الأطفال. تعاونوا وأصدروا العدد الأوّل بشكل بدائيّ، شكلاً ومضموناً، بحسب الإمكانيّات المتوفّرة. لقي عدد المجلّة رواجاً، ما شجّعهم على متابعته. أطلقوا عليها اسم "فرح". أليس بالفرح يبدأ الإنجيل؟ "إنّي أبشّركم بفرح عظيم". تطوّرت المجلة عبر السنين حتّى صارت تصدر بالألوان الكاملة. وتطوّر مضمونها، وحملت قصصاً وتعاليم ودروساً وتحقيقات من ينابيع اللاهوت.
بدأت الأبرشيّات الأخرى تطلبها. وصلت نسخها المطبوعة إلى ستة آلاف ثم إلى ثمانية آلاف. وصلت إلى قمة نجاحها بعدما صار في العاصمة وتوفّرت له إمكانيّات أوسع لها، ومن ثمّ تابعها من أبرشيّته مع فريق العاصمة الجديد.
لا ينسى مرّة زيارته لجبل المقطم في القاهرة لتصوير تحقيق عن العمل الإنسانيّ للمكرّسات الأقباط هناك. تتجمّع قمامة القاهرة في الجبل تلاًلاً. ويعيش الألوف على فرزها، معظمهم من الأقباط. أتتهم أخت فرنسيّة كاثوليكيّة بعد تقاعدها من التدريس في مدرسة رهبنتها لتشاركهم حياتهم واستطاعت مع الوقت كسب صداقتهم وإقامة مشاريع تنمويّة وتعليميّة لهم. لمّا بلغت من العمر عتيّاً وألزمتها رهبنتها بالإقامة كليّاً في الدير الأمّ في فرنسا، التقت ببابا الأقباط (شنوده) وطلبت إليه أن يرسل مكرّسات من كنيسته ليستلمن ما أسّسته، وهذا ما كان. تقوم المكرّسات بعمل جبّار. تخال نفسك داخل مباني الورشات وروضات الأطفال في سويسرا، لكنّك إن تطلّعت من السطح ترى القمامة أكواماً في كلّ مكان.
يذكر أنّه رجع في حالة غريبة يمتزج فيها الإعجاب بالاشمئزاز، شعر أنّه بحاجة إلى حمام ساخن ينقّي داخله لا خارجه فقط. وللمرّة الأولى في حياته سلّم ثيابه إلى الفندق ليغسلها. لم يستطع أن يشرب شيئاً عند المكرّسات اللواتي استقبلنه بودّ وفرح. خجل من نفسه آنذاك، وشعر بخيانته لربّه، لأنه لم يتحمّل مشاهد البؤس والقمامة التي رآها. مذّاك قرّر ألا يتمّم، على صعيد حياته الشخصيّة، شيئاً معيشيّاً يخصّه حتّى كماله، ليبقى مشاركاً للبائسين ولو معنويّاً. وبدأ يتيقّظ إلى أن يكون فقيراً من الداخل، غير متطلّب على صعيد حياته الشخصيّة، متقبّلاً كلّ شيء برضى وقناعة. ليس متأكداً من أنّه نجح كثيراً، لكن بساطة العيش التي يحبّها أساساً صارت عنوان حياته الخاصّة. كانت زيارة مفصليّة على صعيد بناء شخصيّته.
استمرت المجلة بالصدور ورافقتها بعد سنوات، أخرى غير دوريّة للعائلة، وصدرت عدّة أعداد للشبيبة. وبعدما عاد من زيارة أبرشيّة أميركا بدأ بإصدار نسخة بالإنكليزيّة، صدر منها عدّة أعداد. لكن الحرب التي بدأت في البلد اضطرّته إلى التوقّف عن إصدارها، هي ومجلة الأبرشيّة. كان الأمر محزناً جدّاً له، وتثبيتاً لمخاوفه ممّا كان يجري في المنطقة.
بعدما أصبح مطران أبرشيّة صار بمقدوره تحقيق حلمه بإصدار الكتب محليّاً. بدأ بسيرة القدّيس سابا الصربيّ، وقدّم أحد الأصدقاء القدامى تكاليف طباعته، ليُخصّص ريعه لدعم جامعيي أبرشيّته من المعوزين. صدمته كانت كبيرة، إذ انتشر الكتاب في كلّ الأبرشيّات إلا أبرشيّته، فاكتشف أنّ مؤمنيها لم يعرفوا قبلاً الكتاب المسيحيّ، وتالياً لم يعتادوا القراءة الروحيّة. ما جرى كان دافعاً له إلى إعادة قراءة حال الأبرشيّة وتاريخها القريب بدقّة، بغية معرفتها بواقعيّة.
استمرّت دار النشر في العمل. توزّعت الكتب على حقول القضايا اللاهوتيّة المعاصرة التي تتطلّب جواباً، والرعاية والأطفال والأولاد. ستستمرّ هذه الدار فترة أطول من المجلّتين.
أمّا قصته مع مجلّة الأبرشيّة "العربيّة"، فتحتاج إلى إفراد فصل خاصّ بها.
زارته إحدى السيّدات في السنة الثانية من الحرب، وسألته عن الجديد من إصدارات المطرانيّة. أجابها ألا ترين الوضع في البلد؟ أهذا وقت إصدار الكتب؟ كان جوابها ملهماً له، إذ قالت: هذا بالضبط أوانه، فما الذي يعزّينا في هذه المحنة سوى الكلام الإلهيّ. اعتبرها رسالة من الله وتابع ما استطاع.
في السنوات الأخيرة ازداد الوضع الاقتصادي تدهوراً، فلجأ إلى النشر الإلكترونيّ، بدءاً بالكتب الصادرة سابقاً، وليس انتهاء بها. لقيت هذه الطريقة تجاوباً عند القرّاء، وساهمت في اختراق الحدود الجغرافيّة ليصل المنشور إلى كلّ مكان. هذا عوّضه عمّا توقّف.
بقيت الكلمة عزيزة وقيّمة في نفسه. حاول أن يعطيها كلّ ما وهبه الله إيّاه. سيرى بعد حين ثماراً معزّية لنشرها، وسيقابل كثر من الذين غيّرت إحدى هذه المطبوعات أو العظات حياتهم. وهاكم بعضاً منها:
فيما كان يستمع إلى اعترافات المؤمنين وهو كاهن، أتته فتاة جميلة على آخر حداثة في ثيابها. فتساءل بينه وبين نفسه ماذا تبغي فتاة مثلها من الاعتراف. قالت له إنّها لا تعرف شيئاً عن سرّ الاعتراف، لكن فضولها دفعها إلى قراءة كرّاس من إصداره حول هذا السرّ صادفته عند إحدى صديقاتها فأتت لتختبر الأمر. ستصير هذه السيّدة في ما بعد من أنبه تلميذاته في اقتناص الكلمة المخلِّصة.
بعدما صار مطراناً أتاه رجل متقدّم في السنّ قليلاً، يعرّفه بنفسه ويخبره بأنّه من إحدى قرى الأبرشيّة، لكنّه يعرفه جيّداً، إذ كان ضابطاً كبيراً في البحريّة، ويتابع القدّاس الإلهيّ كلّ أحد في أيّ كنيسة تيسّرت له، حتّى شارك مرة لواجب تعزية في الكنيسة التي يخدمها هو، فكان، بعد سماعه العظة، أن التزم القدّاس الإلهيّ في تلك الكنيسة حتى بلغ سنّ التقاعد.
للراعي أن ينطق بالكلمة ويزرعها، ويترك إثمارها لعمل الله لا له. نحن نزرع والله ينمّي على ما يقول بولس الرسول. انتظار الراعي ثمراً يتعبه ويؤذيه، لكن الله يلاطفه بلمسات كالتي ذكرها في هذا السياق فيشدّده ويقيمه من تجربة الوهن عندما تحدق به.
الكلمة محيية إذا كانت من القلب. كان صاحياً إلى أن يتكلّم من قلبه، لا من عقله فقط، فتعلّم مع الوقت جمال الكلمة وبساطتها وملامستها لهموم الناس وقلوبهم، فصارت له درباً إليهم، عوّضه ذلك عمّا أجبرته الحرب عن الانقطاع عنه.