الأسقفيّة
عندما غادر مدينته إلى العاصمة ليُرسم أسقفاً، وما إن صار خارجها، حتّى شعر بأنّ روحه قد خرجت من جسده.
لم يختبر العيش في مدينة كبيرة قبلاً، وهو يميل إلى هدوء مدينته ومغرم ببحرها، واعتاد على التمشّي بجانبه يوميّاً، خاصةً وأنّه يحدّ رعيّته مباشرة من الجهة الغربيّة.
لم يعرف أنّه سيقع في غرام العاصمة سريعاً، وستبقى دموعه في عينيه عندما يغادرها إلى أبرشيّته برفقة البطريرك، حتّى إنّه سأله عن الأمر. لقد وجد فيها مجالاً واسعاً للعمل الروحيّ، ولمس عطشاً وتوقاً جعلاه يعطي ذاته بكليّتها للخدمة.
شاركه المحبّون قدّاس الرسامة، وملأوا الكنيسة من عشيّة اليوم السابق. شبّهه أحدهم باحتفال الهجمة (فجر يوم الفصح) الذي كان يجري قديماً في مدينتهم. ثمّة فرح عميم شمل الجميع، وشارك الكثير من الإخوة الأساقفة في الرسامة. انتهت المراسم وعاد كلٌ إلى بيته. لزم غرفته الجديدة يفكّر بما سيقوم به في هذه الخدمة.
لم يلمس عند البطريرك توجيهاً محدّداً، وإنّما اعتاد أن يوضح له أموراً تساعده في فهم المدينة الجديدة والأوضاع الكنسيّة. كان البطريرك ذو فكر ثاقب. بعد أشهر سيكلّفه بتمثيله في الجمعيّة العموميّة لمجلس كنائس الشرق الأوسط، وعليه أن يقدّم محاضرة باسم العائلة الأرثوذكسيّة. كتبها وأتى غبطته يسأله قراءتها ووضع ملاحظاته عليها، فأجابه: لم أعتد، عندما أكلّف أحداً بمهمّة، أن أعلّمه ما يجب أن يقول. كان درساً بليغاً له.
البطريركيّة نطاق أوسع من الأبرشيّة للتعرّف إلى الوجوه الأرثوذكسيّة والمسيحيّة العالميّة التي لم تتوقّف زياراتها لها. بدأت علاقات جديدة تتكّون عنده وكذلك صداقات. بدأت علاقته بمجلس كنائس الشرق الأوسط، إذ عيّنه البطريرك عضواً في لجنته التنفيذيّة. كان المجلس نشطاً آنذاك والعمل على قدم وساق. خبرته فيه واحتكاكه بجميع ممثّلي الكنائس الأعضاء أغنت شخصيّته ونمّت إمكانيّة الحوار عنده وربطته بصداقات حميمة مع بعضهم لا تزال على حرارتها إلى اليوم.
كانت خبرته تقتصر قبلاً على مشاركة يتيمة في مخيّم لطلبة اللاهوت في الشرق الأوسط أقيم في قبرص وكان آنذاك يدرس اللاهوت في السنة التحضيريّة. رأى فيه ما لم يره في مدينته التقليديّة، وزوّده بصداقات جميلة، لكنّه آنذاك قدّر عالياً كنيسته ورصانتها. أمّا الآن فبدأ يتعرّف إلى واقع حياة الكنائس الأخرى ويرى مواطن القوّة والضعف فيها، ويقارن خبراته المتراكمة بواقع كنيسته. هذا مدّه برؤىً ما كانت لتتبلور لولا هذه المعرفة والخبرة للآخر.
عدا ذلك اهتمّ بتأمين الخدمات الليتورجيّة وتلبية إلقاء المحاضرات والتعليم وافتقاد الرعايا. وكذلك الاهتمام بالكهنة وطلّاب اللاهوت، وهو بدوره أعطاهم وقته. فبدأ يجمعهم مرّة في الشهر ليقضوا يوماً كاملاً، يصلّون ويتحاورون ويتعلّمون سويّاً، بالإضافة إلى لقاء آخر شهريّ حول مائدة عشاء بسيط للكهنة وزوجاتهم، ينضمّ الأولاد إليهم أحياناً. سرعان ما أحبّ المشاركون هذه الخبرة وانعكست لقاءاتهم على علاقتهم بعضهم ببعض إيجابيّاً. ظلّوا بعد مغادرته يزورونه سويّاً حوالى السنتين.
تعامله معهم بأخوّة جعلهم ينفتحون عليه في أمورهم الشخصيّة ويكشفون همومهم وآمالهم أمامه مشاركينه بها. هذا عنده يصبّ في رؤيته الكنيسة عائلة المسيح الحقّة. حقّاً لا تحتاج هذه الرؤية إلا إلى التفعيل. يؤلمه دوماً في واقع الكنيسة أنّ النوايا كثيراً ما تكون صالحة، لكن وسائل التعبير عن المحبّة المطلوبة هي الضعيفة ما يجعل المبادرات تفشل أو تنعكس سلباً.
أرّقه هذا الأمر منذ سنوات، وبدأ يعزي السبب إلى أمرين: إفراط في الإرشاد الروحيّ على البعد العموديّ، على حساب البعد الأفقي، وجهلٌ مستشرٍ بأصول العلاقات حضاريّاً وإنسانيّاً. فاعتاد مذّاك أن يأخذ الأمر بروح الدعابة ويقول "روم وعالم ثالث!".
كان في صغره منتبهاً إلى أصول العلاقات عند أخوات الكرمل وكيفيّة التعاطي مع الآخرين إخوةً أو ضيوفاً أو عابرين. تتكلّم أوساطنا كثيراً عن المحبّة، ولا تذكر الاحترام! هل تكتمل المحبّة من دونه؟ مشغولون بالتعابير الذهبيّة ومعرفة قضايا اللاهوت النظريّة أكثر ممّا مهجوسون بكيفية عيشها وتطبيقها. ثمّة جمود في الواقع الكنسيّ صار له بُعْدٌ روحيّ ولاهوتيّ صاغه تاريخنا المثقل بالاضطهاد والمحن، ما يعني لزوم وعي وصحوة مصحوبين بصبر وطول أناة شديدين.
يلزم الكنيسة شهودٌ حقيقيّون. وحده الشاهد الطاهر يعكس نوراً يضيء أمام الآخرين. لا يزال أسىً يخالطه لعدم تحقّق حلمٍ له وبعض أصدقاء، زمن المرحلة الثانويّة. لقد رغبوا آنذاك بتكرّسٍ قريب إلى الشموسيّة أكثر منه إلى الرهبنة أو الكهنوت التقليدييَن، بإنشاء بيت صلاة في المدينة يسكنه إخوة يعملون معيشيّاً كغيرهم، ويحيون حياة مكرَّسة مشترَكة كاملة، ويقومون بما يكلّفهم به المطران من خدمات رسوليّة.
لم تنقضِ على وجوده في العاصمة سوى ستة أشهر حتّى كان المجع المقدّس لينعقد وعلى جدول أعماله انتخاب مطرانين. هنّأه رئيس أساقفة اليونان الذي كان في زيارة سلاميّة للكنيسة الأنطاكيّة بأنّه سيكون الوكيل البطريركيّ بعد الدورة المجمعيّة.
لم يعرف ما حصل في تلك الدورة تفصيليّاً حتّى الآن. لقد أخبروه بأنّه انُتخب مطراناً على قارّة في بلاد الانتشار! سارع جزعاً إلى البلمند. التقى البطريرك، شرح له الوضع، ليست أستراليا مكانه. تفهّم غبطته الوضع وطلب منه كتابة رسالة توضيحيّة إلى أعضاء المجمع يبيّن فيها أسباب اعتذاره. وهذا ما جرى.
استدعاه آباء المجمع في اليوم التالي لساعة ونصف. أخبرهم بعدم قدرته على القيام بما يرجونه منه بسبب مرض شقيقه الذي لا يستطيع أن يتركه ويبقى مرتاح الضمير، ممّا سينعكس سلباً على خدمة الأبرشيّة. كان هذا هو السبب الرئيس.
تفهمّوا الأمر ولمعرفتهم برغبته بالبقاء في أرض الكنيسة الأنطاكيّة الأمّ انتدبوه إلى أبرشيّته الحاليّة التي كان الأخ المنتخب عليها قد اعتذر عنها أيضاً، لأسباب أخرى تخصّه.
لامه الكثيرون على قراره، لكنّه ما ندم مرّة عليه. قيامه بخدمة أخيه أراحت ضميره حتّى أودعه على حين غرّة بين يدي الربّ، بعد اثنين وعشرين سنة قضاها معه في الأبرشيّة وكانت له فيها حياة جديدة بالكليّة.
سيخبره أحد النافذين بعد سنوات، بأنّ ما حصل بعد اعتذاره هو أنّ الذين يريدونه عضواً في المجمع الأنطاكيّ كانوا مستعدّين لانتدابه إلى أيّ مكان يؤمّن له دخول المجمع، والذين لم يكونوا متحمّسين له وافقوا على قرارهم بنقله إلى أبرشيّـه الحاليّة عقاباً له على اعتذاره. هل كان هذا صحيحاً، لا يدري ولم يعد يهمّه الأمر. إنّه مقتنع بأنّ الله يسيّر أموره إلى ما يؤول إلى خلاصه وفائدة كنيسته. لقد دعم ثباته في موقفه هذا ما عرفه ممّا صار بأخيه عندما سماعه بخبر انتخابه على تلك الأبرشيّة.
قفل راجعاً إلى دمشق يفكّر في مسؤوليّته الجديدة متفكّراً في زيارة خاطفة لدار المطرانيّة، ليتعرّف إلى حاله، بعدما سمع أنّه في حال شبه خربة. فقد كان ما سمعه عن حال الأبرشية لا يسر محبّاً لله وكنيسته.