ونبقى على الرجاء
كان حلمُه كبيراً ولا يزالْ، وإنْ غلبتْ عليه الواقعيّةُ مع السنين؛ غيرَ أنَّ التطلّعَ بقيَ على زَخْمِه ووِسْعِه، وظلّ يزورُه،
من حينٍ إلى آخر، فيضٌ من الحنانِ الغامرِ الذي يجدُ فيه طاقةً تُمَكِّنُه من احتضان العالمِ وما فيهِ من خليقةٍ.
مع ذلك مراراً ما ألقاهُ هذا الفيضُ من الحنانِ على حافّةِ اليأسِ، لأنَّه لِخفره لم يُقبِلْ على معانقة الجميع، ولم تُتِحْ له أوضاعُ خدمتِه أن يُقدِمَ على إظهار ذاتِه الداخليّة وذاكَ الحبِّ الحاضنِ الذي يعتملُ في داخِلِه.
إلى ذلك وفي خمسينيّاتِه، ومع المحنةِ الأليمةِ التي حَلّت ببلده، زادتْ قراءتُه السياسيّةُ لما يحصلْ مِن نَزعَتِه نحوَ اللا تفاؤُل. هذهِ اعتادَ منذ شبابِه أنْ يحاربَها ويغلبَها بقيامةِ المسيح، التي تشحنُه بطاقةٍ إيجابيّةٍ رصينةٍ تُمكّنُه من مواجهةِ شرورِ العالم ومآسيهِ. فمواجهةُ آلامِ الإنسانيّةِ، أساساً، كانتْ دافعَه إلى اختيارِ الكهنوتِ سبيلَ حياةٍ ورسالةٍ. قَتَلَ ضيقُ مكانِ خدمتِه الكثيرَ من طاقاتِه التي بقيتْ مكبوتةً، ما شجّعَه على التعمّقِ في الحياة الروحيّة غَورَاً إلى الأعماق.
هذا قادَه إلى هدوئيّةٍ تتوقُ إليها نفسُه منذ شبابَه، ولم ينفتحْ طريقُها في الرهبانيّةِ أمامَه، فمنحَه الربُّ شيئاً من تذوّقِها، وإنْ بتضييقِ طريقِه حتَّى يلقاها ويُشبِع روحَه ممّا باتَ يراهُ "النصيبُ الصالحُ" الذي يحتاجُ الجميعُ إليه.
لم تُرْضِه معالجةُ الصعوباتِ سطحيّاً. اعتادَ أن يطلبَ تحليلَها ومعرفةَ أسبابِها أوّلاً. وهذا تركَ فيه أسىً، إذ لم يكن لَيتقبّلْ السذاجةَ أو التفاهةَ، ولا السطحيّةَ أو الانفعالَ؛ يريدُ الفهمَ الواسعَ المدركَ الوقائعَ والمستندَ إلى الرجاءِ. وهو ما لمْ يلتَقِه، في أوساطِه، إلا في ما ندرْ.
ما بَرِحَهُ السؤالُ عن أسبابِ زوالِ كنيسةِ شمالِ أفريقيا. هل سيسمحُ اللهُ بأنْ يلحقَ الزوالُ بكنيستِه أيضاً؟ كان في سنِّ المراهقةِ عندما اندلعتِ ما اصطُلح على تسميتها بالحربِ اللبنانيّة. وعلى صغرِ سنِّه عايشها خَبراً خَبراً، وخطوةً خطوةً، وتركتْ في داخلِه أثراً لا يُمَّحى، ما ثبَّتَه في التطلّعِ باستقامةٍ إلى وجهِ مسيحِه، فلا يتلهَّى عنه بأمور مهما بدتْ جذّابةً وحتَّى صالحة. الألمُ صاحبُه المستدامُ! لكنَّه صارَ دربَه إلى وجهِ الحبيب وانعكاسِ ضيائِه على من يحتكُّ بهم.
عاش السنوات الخمسِ الأخيرة من هذه الحرب في لبنان، حين درس اللاهوتَ. آنذاك عايشَ، عن قربٍ، تخبّطَ المسيحيّين وأدركَ، بفهمٍ أكثر، معاناةَ الكنائسِ في سعيها إلى الحفاظ على شعبها، من جهةٍ، وإروائِه من ينابيعِ الخلاصِ، من جهةٍ أخرى. ساعدَتْه تلك السنواتُ على اكتشافِ غباشةٍ ومحدوديّةٍ في قراءةِ المسيحيّين لِمَا يحصل وللتاريخ. سيتعمّقُ هذا الاكتشافُ عنده بمرور السنين. غير أنّ الخوفَ على البقاءِ في الشهادة ما داخله إلا لمِاماً.
لكنَّه، وبعد ملامستِه ما حصل في بلده، وكان قد أصبح أسقفاً وفي سنٍّ متقدّمةٍ، ما استطاعَ مواجهةَ المحنةِ بالتفاؤل عَينِه. رأى، بصفاءٍ، أنَّ الكنيسةَ، من ناحيةِ كونِها مؤسّسةً أو مجتمعاً بشريّاً، ليست على القدر المطلوبِ من القدرة على مواجهة ما يحصل. إدراكُها لأبعاد الأحداثِ يبدو على برودةٍ ما، لها أسبابٌ عديدةٌ بالتأكيد. لكنّ المحنةَ كشفتْ كم يشوبُ المسيحيّين، قادةً وشعباً، في تعاطيهم لرسالتهم، فتوراً واستكانةً ينُمّانِ، في حالاتٍ عديدةٍ، عن شيءٍ من عدم القدرةِ على قراءة ما يحدثُ بالتعمّق والتبصّرِ اللازمين. لمسَ أنَّ المحنةَ قد أزالت قشرةَ الإيمانِ الرقيقةِ التي طغتْ في السنوات الأخيرة على غالبيّة أعضائها، واعتادَ هو أنْ يسمّيها "التدينُ الاجتماعي". لقد وضعتْ المحنةْ المؤسّساتِ الكنسيّةِ وجهاً لوجهٍ أمامَ التحدّياتِ الجسام المتلاحقةِ، وما كانت هذه المؤسّساتُ، على اختلاف أنواعِها، مهيّأةً ولا مستعدّةً لها.
هذا بقيَ يحزُّ في قلبه، لأنَّه ما كان مقتنعاً بالتعاطي الراهن. لم يكن طوباويّاً ليرى الكنيسةَ قادرةً على مواجهة السياسات العالميّة، لكنّه كان متأكّداً من أنّها قادرةٌ، لو توافقَ مؤمنوها وقياداتُها، على العمل المشترك الفاعل والمؤثِّر، أقلَّه أكثرَ ممّا هو حاصلٌ.
لَفَتَه أنَّ القراءةَ الروحيّة لما يحدثْ غائبةٌ أو مغيّبةٌ، وأنَّ الانشغالَ باللحظةِ الراهنة والمتطلّبات المعيشيّة يكادُ يحتلُّ ساحةَ الاهتمام بكاملِها. نحتاجُ إلى نبيٍّ أو أكثر، قال لنفسه. هل من إشعياءَ جديدٍ يضعُ الأصبعَ على الجروح؟ أو إرمياءَ معاصِرٍ يدعو إلى التوبة علَّ اللهَ يصرفُ وجهَه عن خطايا شعبِه ويُقصِّرُ الأيّام الرديئة؟ هل من حزقيالَ آخرٍ يبشّرُ بالرجاء الآتي من بعد الدمار؟
على الرُغم من كلّ هذا، ما برِحَه الانشغالُ بدوره ومسؤوليّته وما يمكنه القيامُ به. حيويّةُ هذا الهاجس كادت توصله إلى حدود الكآبةِ وانقطاعِ الرجاءِ أحياناً. لولا لطفُ الله ورحمتُه الغامرة لكان ذهبَ كَمَداً منذ زمن.
ففي خُبراتِ الليل المظلم هذه كانت ملامساتُ اللهِ له تعزيتَه وتقويتَه ومصدرَ استمدادِه الرجاءَ الواقعيَّ، وانطلاقَه إلى عالم الشهادة راضياً بمَا يُعينُه الله على القيامِ به وبمَا يفعلُه روحُه القدّوسُ في شخصه وخدمته. وما بخلَ الله عليه قطّ.
في تلك اللحظات كان حُلمُه الكبير يتجدّدُ ويأتيه بأفكارٍ لا تخلو من خيال، غير أنّه خيالٌ مستندٌ إلى عمل اللهِ في التاريخ، ذاك الذي قرأَه جيّداً في العهد القديم وتاريخ الكنيسة، فعرف أنّه وحدَه، له المجد، سيّدُ التاريخ، وأنَّه يحوّلُ مآسيه دائماً إلى طاقاتٍ خيّرةٍ لا يستطيعُ الإنسانُ إدراكها إلا بعد أن يعبرها، هذا إنْ امتلك عينين روحيّتين تقرآن آثارَ الله في ما يحدث على الأرض بأيدي البشر.
التفتَ إلى تأمينه ما أمكن من حاجات المعوزين في أبرشيّتِه وأَولاها اهتماماً كبيراً، ولو أنَّه ليس بالمستوى الذي يُرضيه. عرفَ أنَّه سيواجهُ مشكلةَ عدمِ توفِّرِ خبرةِ عملِ المحبّة في نطاقِ خدمتِه الجغرافيّ. لكنّ اللهَ افتقدَه وأبرشيّتَه ببعضِ من تساقطَ عليهم نورَه الإلهيّ وشدَّهم إلى خدمة كنيسته فعوّلَ عليهم، ولا يزال. هل بدأتِ الأرضُ تعطي بعضَ ثمارٍ؟ جوابُه: هذا يبقى الرجاءُ الذي من دونه تبقى قيامةُ المسيح أغنيةً، وما قامَ السيّدُ إلّا لتكونَ للبشرِ حياةً جديدةً حقيقيّةً.